الخطة والأهداف › المنتديات › إرشيف › الثورات العربية المعاصرة .. جذورها التاريخية والدروس المسـتفادة منها،،مقال للكاتب زهران بن زاهر الصارمي ـ ولاية إزكي
- هذا الموضوع فارغ.
-
الكاتبالمشاركات
-
13 يوليو, 2011 الساعة 12:00 ص #1327
siteadmin
مدير عامالثلاثاء, 12 يوليو 2011
زهران بن زاهر الصارمي
لا شك أننا أمام أبواب عصر جديد، في العالم العربي، تبدو مقدماته واضحة جلية في الانتفاضات الشعبية التي تجتاح البلاد العربية من المحيط إلى الخليج … تلك الانتفاضات التي تعادل في وقعها وأبعادها و تأثيراتها الإقليمية و الدولية في بعض البلدان أكبر الهزات الأرضية التي بقوتها أطاحت بأعتى و أقوى القلاع البشرية ذات المكانة العسكرية و الأمنية و الاقتصادية ، كتلك التي حدثت في جمهورية مصر العربية ، و تونس ، و الحبل على الجرار كما يلوح في أفق بعض البلدان العربية الأخرى … و السؤال الذي يطرح نفسه و بقوة ، لماذا هذه الثورات ؟ و لماذا تحدث في هذا الوقت بالذات ، ما الذي يجعلها ككرة الثلج المتدحرجة من أعالي القمم ، تكبر و تكبر في سقوطها ، وتسحق في طريقها كل شيء أمامها بلا تروٍ أو هوادة … ما الذي جعل هذا الحراك الشعبي الذي بدأه محمد البوعزيزي التونسي ، بإشعال النار في جسده ، يبدو كاللهب الذي صادف في طريقه بترولاً منسكباً في طول البلاد العربية وعرضها ، فاجتاحت النيران مدنها و ساحاتها و سهولها و الجبال .؟ ….. ما هي القوة السحرية التي غذت هذه الحركات الشبابية – التي بدأت في غالبيتها عفوية سلمية بسيطة – لتغدو بعد حين قصير في قوتها واندفاعها المفاجئ كالإعصار في أقصى درجاته ، فلا يُبقي أمامه و لا يذر ؟ ….ما السر الكامن وراء كل هذا الجيشان و الطوفان الشعبي الراعد الذي صار مفاجأة لم تكن أبداً في الحسبان حتى لدى أدق مراصد البحث و التقييم لنبض الشارع العربي .؟ … أهو الخبز وحده ، أم أن وراء الأكمة ما وراءها ؟ … أم أن الخبز ما عاد للثورات المعاصرة أكثر من قمة جبل الجليد الطافية على سطح البحر ؟!
أجل ! لو كان الخبز وحده يحرك الشعوب ، لحرك الجياع في شبه القارة الهندية ، و في الصومال ، و في غيرها الكثير من البلدان الإفريقية و الآسيوية ، و في بعض بلدان أمريكا اللاتينية ؛ لكن من الواضح جداً أن الملايين التي امتزجت و تلاحمت و شكلت تلك الملحمة الفريدة في صوتها الموحد الهادر الهاتف بسقوط النظام ، لم يوحدها فقدان أو نقصان رغيف الخبز فحسب ، قدر ما وحدها و صهرها في بوتقة واحدة، هو قبل كل شيء و فوق كل شيء، فقدان الكرامة … هو إحساسها الساحق بالمهانة … هو تجريدها من إنسانيتها ، وشعورها المذِل بأنها صارت في أوطانها وعند حكامها في منزلة أحط و أدنى من منزلة الحيوان .إن كلمة الظلم، ما عادت تعني في قاموس الزمن المعاصر مجرد سلب أو هضم لحقوق الفرد الاقتصادية، بل تعدى معناها في ضمير وعقل هذا الفرد إلى أبعاد أخرى أعم وأشمل تناولت معاني الهضم والتهميش والمصادرة للحقوق في كل جوانب الحياة الاجتماعية والاقتصادية والفكرية والسياسية والتعليمية والمهنية التي يعيشها هذا الفرد المواطن ، تجسيداً وتحقيقاً لمقولة المسيح عليه السلام : ” ليس بالخبز و حده يحيا الإنسان “.
و لقد نما هذا الوعي الوطني الثوري الحر، وترعرع غرسه في أعماق النفس و العقل الباطن اللاواعي لأفراد هذه الأمة، بفعل النحت المستمر في الذاكرة والوجدان ، والعزق والبذر والري الطويل النفس، المنظم منه، وغير المنظم ، المقصود الموجه منه ، والعفوي غير المقصود ، الذي مارسه المثقفون الطليعيون، والحاملون لهموم الأوطان وكرامة الإنسان على مختلف مشاربهم على مر العصور والأزمان، وفي مختلف الأمصار والبلدان العربية ، حتى وصل إلى ما وصل إليه اليوم من فيض و وهج ، تجلت بداياته مع بداية النصف الثاني للقرن العشرين بظهور الإرهاصات الشعبية المعبرة عن تململ شعوب هذه الأمة وانتفاضها في وجه السحق والمحق والهوان الذي يمارس في حقها من قبل قوى الظلم والبطش والطغيان ، الداخلية منها و الخارجية، فكانت الثورة المصرية عام 1952، وما رافقها من ظهور قوي للحركة القومية العربية والناصرية، تجلت في قيام الثورة الجزائرية ، ثورة المليون شهيد، وفي تفجر الحركات التحررية ضد الاستعمار وأعوانه في كثير من الأقطار العربية خلال الستينيات والنصف الأول من سبعينيات القرن المنصرم …. ثم كان ما كان من أمر الجزر والوهن الذي اعترى جسد هذه الأمة في نهايات القرن العشرين والعقد الأول من القرن الواحد والعشرين ، و ذلك لشراسة الهجمة الإمبريالية وحجم التكالب الاستعماري والصهيوني على هذا الجزء الحيوي من العالم.
غير أن هذه الأمة ، رغم ما بدا على جسدها من إعياء و وهن ، وصل حد اعتقاد الكثيرين منا بأنها قد ماتت وانتهت ، وأصبح يردد فيها و في الأحداث الجسام التي تمر بها، و هي بلا ردة فعل أو حراك ، قول المتنبي الشهير:
من يهن يسهل الهوان عليه
ما لجرح بميت إيلاممع كل ذلك ، وباللهب المتصاعد كالبركان في طول البلاد العربية وعرضها، أثبتت هذه الأمة بأنها حية تنبض بالحياة، وبأنها تستمد هذا الزخم الحسي والحركي من عمقها التاريخي الثري بكل معاني الإباء والكبرياء والشمم، وبالمواقف الناضحة بالشجاعة والشهامة والكرامة والقيم، التي يزخر بها ميراثها الحضاري منذ سالف الأيام والقدم.
و أنا بذلك أتعارض مع مقولة : أن الشارع العربي في وعيه و حراكه تعدى و تجاوز المثقفين العرب، وتركهم خلفه في طموحاته وأهدافه وغاياته ؛ كما ذهب إلى ذلك عدد من الكتاّب على رأسهم علي حرب في كتابه “أوهام النخبة أو نقد المثقف” الذي نعى فيه موت المثقف الرسولي وانتهاء دوره القيادي الطليعي، وبل وإني لأرى حراك الجماهير العربية الراهن، إن هو إلا ترجمة لأقوال ملتهبة خالدة لا تُعد، لعدد لا يُحصى من حملة الراية والشعلة المتوهجة المتناقلة بين الأجيال المتعاقبة لهذه الأمة. فمنذ البدء كانت المنطقة العربية، منطقة رافضة للذل والهوان، مقاومة للظلم والطغيان، عاشقة للتجدد والتطور والتغيير؛ وليس أدل على ذلك من أن هذه المنطقة كانت مهداً لكل الرسالات السماوية الكبرى، الهادية للإنسانية سواء السبيل.
فالثورات الشعبية العربية المعاصرة ، التي تبدو للبعض مفاجأة، وأخذتهم على حين غرة، ما هي إلا تعبير صادق لقيم الرفض و تلبية لنداء الثورة المتراكم المترسب في أعماق العقل الباطن وضمير ووجدان أبناء هذه الأمة عبر ردح من الزمن، ظل يطلقه العرب الأمجاد و حكماؤهم وشعراؤهم الخالدون في أفعالهم البطولية و أقوالهم الاسنتهاضية منذ عنترة بن شداد و ربما قبله بكثير ، حين قال :
لا تسقني ماء الحياة بذلة
بل فاسقني بالعز كأس الحنظل
ماء الحياة بذلة كجهنمٍ
و جهنمٌ بالعز أطيب منزلإلى أبي بكر الصديق ووصيته العظيمة الملهبة لحماس جيوش المسلمين الزاحفة نحو الروم في معركة اليرموك “أطلبوا الموت توهب لكم الحياة”، مروراً بقطري بن الفجاءة و قوله:
و ما للمرء خير في حياة
إذا ما عُدّ من سقط المتاعوفي الكبرياء و الإباء الكامن في الأشعار الخالدة لشاعر العروبة أبي الطيب المتنبي:
لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى
حتى يُراق على جوانبه الدم
و: إذا غامرت في شرف مروم
فلا تقنع بما دون النجوم
فــطــعــم المــوت فــي أمـر حـــقــــــير
كــطــعــم المـــوت فــي أمــر عــظــيــمو في الأنفة و الشموخ المتجسد في معلقة عمرو بن كلثوم :
إذا ما المُلكُ سام الناس خسفاً
أبينا أن نقر الذل فينا
إذا بــلـــغ الــرضــيـــع لــنــا فــطــــامــــــــا
تــخــر لـه الـجـبـابـر سـاجـديـنــاو إلى ” وا معتصماه ” في معركة عمورية ،… و إلى ” وا إسلاماه ” في حطين صلاح الدين الأيوبي … و إلى البطل عمر المختار الليبي، وصرخته القاهرة في وجه المستعمرين الطليان “نموت أو ننتصر” وإلى جمال عبد الناصر، ذلك القائد الكارزمي الذي ألهب الجماهير العربية ونفخ في عزائمها، وجعل لقضيتها، قضية العروبة، في العالم، هيبة و قيمة ومكانة وإلى القضية الفلسطينية و لظى تنظيماتها الثورية إلى اللهب المتصاعد من قصائد شعراء الرفض و المقاومة، وعلى رأسهم أبي القاسم الشابي و قصيدته ” إرادة الحياة ” التي صارت شعاراً لكل الثورات العربية وغير العربية في هذا الزمن.
أجل! لم تكن الثورات العربية المعاصرة إلا رجع الصدى لآلام شعرائنا المعاصرين العظام ؛ محمود درويش و سميح القاسم ، و معروف الرصافي و أحمد شوقي، وسامي البارودي، وفاروق جويدة، ذلك الشاعر الثائر المعاصر، المحترق ألماً وغيضاً وغضباً على الحضيض الذي وصلت إليه هذه الأمة، بعد أن كانت رمزاً للمجد والعز والفخار، مجسداً كل ذلك في قصيدته مرثاة الغروب:
كانوا ملوكاً….. و كانوا للورى قبساً
و شعلة من ضمير الحق تشتعل
لم يبق شيء لنا من بعد ما سقطت
كل القلاع
تساوى السفح و الجبل
لم يبق شيء لنا من بعد ما غربت
شمس الرجال
تساوى اللص والبطل
يا أيها الجرح … كان لي أمل
أن يبرأ الجرح
لكن خانني الأمل
ففي خيالي شموخ كنت أنشده
مجد تغنت به أجيالنا الأول
لكنه العار يأبى أن يفارقنا
و يمتطي ظهرنا أيان نرتحل
يا أيها الجرح … نار أنت في جسدي
و جرحنا العار
كيف العار نحتملأجل! أين تذهب كل تلك الصرخات المجلجلة، وهذا النداء الاستنهاضي المزلزل العظيم، أين يذهب إلا في أعماق النفوس، فيترسب فيها و يترسب كترسب الحمم في أعماق البراكين، إلى الحد الذي يضيق بها جوف الأرض ، فتنفثها ألسنة من نار وحمماً تحرق كل شيء أمامها ولا تبقي له على أثر.
إنه رجع صدى “الجزيرة”.. تلك القناة العربية الثائرة الحرة … رجع صدى كل إعلامييها الطليعيين الأحرار، الحاملين مشاعل التنوير بكل دهليز من دهاليز الظلم و الظلام، فكان منهم الشهيد والطريد والجريح والمعتقل .. وإنه لرجع صدى الحرف وأقلام الشرفاء الألف، الذين يخطون بدمائهم قولاً أفعل من صول – كما قالت العرب.
إذاً، فهي ثورة فسيفساء المجتمع العربي بكل فئاته وطبقاته وتكويناته، ثورة المهضومة والمنهوبة حقوقهم … ثورة الجياع… ثورة المعذبين في الأرض، المشردين العائشين بلا سكن ولا مأوى، المفترشين الأرض، الملتحفين السماء …في كثير من مدننا العربية.
و هي ثورة المكممة أفواههم … ثورة من شاءت الحكومات العربية أن يكونوا صماً بكماً عمياً فهم لا يعقلون، رغم كونهم بكامل حواسهم و العقل، هي ثورة المداسة كرامتهم، الممرغ بكبريائهم وشرفهم في الوحل … ثورة الموتورين المصادرة إنسانيتهم …. ثورة الناقمين الساخطين على الفساد.. الرافضين للتخلف والكساد … ثورة الفقراء و فئات الطبقات الوسطى في مجتمعاتنا العربية، بشتى أطيافهم الفكرية والأيديولوجية والعقائدية على حد سواء.. لقد وحدهم باليوم من ألغى وجودهم بالأمس، واتخذ في مسيرته معهم شعار” أنا و من بعدي الطوفان “، فصار كلهم في الهم شرق، وأصبحت كل عين تبكي على ما شجاها، و كل قيس يبكي على ليلاه، التي اغتصبها ثم اغتالها في وضح النهار هذا الحاكم الطاغية أو ذاك.
لقد صبرت هذه الأمة طويلاً على جلاديها و مغتصبيها صبر الكريم الحليم ؛ غير أن بعض حكامها لم يرعوا فيها إلاًّ ولا ذمة، بل وجرعوا أبناءها صنوفاً من العذاب والهوان وكأس المذلة، فنفذ الصبر وطفح الكيل لديها وبلغ السكين العظم، والويل ثم الويل من غضب الحليم، فيوم المظلوم على الظالم، أشد من يوم الظالم على المظلوم، فكان الانفجار الذي لن يقر له قرار إلاّ بسحق كل العروش والأنظمة المنحلة، التي عاثت في أرضنا العربية فساداً، وصيرت بلداننا إلى إقطاعيات لها، وشعوبنا إلى مجرد أقنان وعبيد .الدروس المستفادة من هذه الثورات ( 2 )
إن الدروس المستفادة من هذه الثورات لا تكمن في مدى الانتصارات التي قد تكسبها، أو لا تكسبها في ساحات النضال السلمي أو العسكري ، ولا في مدى قدرتها، أو عدم مقدرتها على تحقيق كل أهدافها المرجوة المبتغاة، فالوضع الجيوسياسي للوطن العربي وشعوبه، شديد التعقيد، في تركيبته الأنثروبولوجية والطبقية والعقائدية، وشديد الحساسية للغرب ومصالحه الاقتصادية والاستراتيجية؛ الأمر الذي يجعل عوامل وعناصر الثورة المضادة قوية بل وشرسة هي الأخرى بالمقابل. ولكن الدروس المستفادة من هذه الثورات والحقائق التي أفرزتها وأنتجتها بشكل قطعي لا جدال فيه، هي:• أن شعوب هذه الأمة رغم كل ما ران عليها من خمود وهمود واستكانة، لم تستسلم ولم تمت، بل وقفت على قدميها وضربت بقبضتها الحديدية أسوار السجون المحاطة بها، فحطمتها وحطمت معها إسار كل المظلومين و المعذبين في الأرض. وأخرجت المارد من قمقمه، فما عاد بالإمكان لجمه أو إعادته إلى قوقعته.
• أن ظاهرة الفوبيا التي كانت تحكم الشعوب العربية وتكمم أفواهها وتكبل إرادتها، من محيطها للخليج، انتقلت كرتها، بفعل وفضل هذه الثورات، من ملعب الشعوب إلى ملعب الحكام، فصاروا هم من ترتعد فرائصهم من شعوبهم، وليس العكس، وصاروا هم الذين يحسبون ألف حساب وحساب للشعوب، ولم تعد الشعوب تخشى الهراوة الغليظة لقوى القمع، ولا رصاصها أو قنابلها المسيلة للدموع أو للدماء.
• أن هذه الثورات وضعت كل الأنظمة العربية بلا استثناء أمام حقيقة مفادها، إما أن تسعى هي ذاتها للتطوير وإحداث التغيير لسحب البساط من تحت أقدام الثورة، ومحاصرة الحريق الثوري بقطع الأعشاب من حوله، أملاً في إطالة فترة بقائها أطول فترة ممكنة؛ {و هذا ما يحدث بالفعل حالياً في كثير من البلدان العربية}؛ أو أن تستعد لمواجهة اللهب القادم نحوها كالإعصار، فلا يبقي من أركانها ولا يذر.
• أن هذه الأمة العربية – كما قال عنها ذات يوم هنري كيسنجر همساً في أذن مناحيم بيجن رئيس الوزراء الإسرائيلي يومها : “بأنها أمة ذات بعد وعمق تاريخي وحضاري وجغرافي واقتصادي وثقافي خطير، ما اجتمع لأمة مثلما اجتمع في أمة العرب و لكنها كانت تعيش فترة من السبات الشتوي، فنصح كيسنجر يومها ضيفه بيجن بأن تسعى إسرائيل جاهدة لإطالة فترة هذا السبات؛ لأن هذه الأمة، كما قال مستطرداً، لو استفاقت من نومها تحولت إلى مارد جبار لن يكون بوسع قوة في الأرض الوقوف في وجهه”.
• أن هذه الثورات استمدت زخمها و عزمها وإيمانها القوي بالانتصار، من عدالة قضيتها أولاً، و من كاميرات الجزيرة ونظيراتها من وسائل الإعلام الحرة الشريفة، التي رفعت الغطاء عن كل أشكال البطش والعسف الذي كانت تمارسه هذه الحكومات في الظلام، بأبشع صوره في حق كل من يرفع عقيرته في وجهها بكلمة فما عاد بوسعها أن تمارس ذلك الطمس للحقائق أو تزييفها … ما عاد بإمكانها أن تمارس ساديتها في القتل والتعذيب والتنكيل بدم بارد في الخفاء، ودون أن يعلم العالم شر فعلتها وسوء أعمالها، بل أصبح الصوت والصورة المرئية في كل أصقاع الأرض تفضح و تعري كل أفعالها اللاإنسانية المشينة؛ فمهما حاولت التستر على رذائلها وممارساتها القمعية المريعة والقبيحة في حق شعوبها، فلن يجديها ذلك نفعاً في إجهاض أو إخماد هذه الحرائق المنتشرة في ربوع بلدانها، بل و لن يزيدها العنف المستخدم ضدها شهاراً جهاراً إلا أواراً و اشتعالاً، سيصل لهيبه إن عاجلاً أو آجلاً كراسي عروشها المتداعية ، و لن يزيد هذه الحكومات و طواغيتها إلا حرقاً و عزلة و كراهية لها في الداخل والخارج لدى البلدان الحرة و غير الحرة !! ومن يزرع الشوك لا يجني العنب – كما قالت العرب في أمثالها الخالدة .
• إن هذه الثورات بهذا الحجم و الشمول الذي استوعب و احتوى كل ألوان الطيف الفكري والطبقي والعقائدي للمجتمعات العربية، قد تخطت بتيارها الجارف كل أطروحات ومرئيات الأيديولوجيا والعقائد السائدة بشتى مذاهبها والمناهل، بل وألزمتها المراجعة و التقييم الذاتي، إن هي أرادت لنفسها الوجود والاستمرار بين الجماهير العربية، حيث صار عليها هي الأخرى أن تجدد في رؤيتها و أطروحاتها و فهمها وتحليلها لمعطيات الصراع وآليات التنبؤ بالأحداث و قيادتها للحراك؛ وإلا وجدت نفسها بعد حين على الهامش، خارج التيار الذي لا يلوي على شيء في جريانه وحراكه؛ ذلك أنه، لا اليسار الاشتراكي أو العلماني بنظرياته و شعاراته الثورية الطنانة الرنانة، باتت تستهوي الشارع العربي اليوم، لأنه ما حصد منها، عبر سنوات طويلة من التجربة، سوى الخيبة والإفلاس والحصرم؛ ولا الحركات الإسلامية الأصولية صارت عنده هي من تمثل الخلاص أو صانعة الجنة الموعودة، لمشيها على حد السيف، فلا تبقي لهذا المواطن هامش من التفكير أو الاستراحة والتقاط الأنفاس في رحلة الحياة ، بل هي تمسك بناصيته و تصر على قوده كالبهيمة أو الأعمى إلى حيث هي تريد لا إلى حيث هو يتمنى أو يريد.
• أن مبدأ عدم إمكانية قيام الثورة أو التغيير، في أي بلد في العالم، إلا بوجود قيادة أو زعامة تاريخية كاريزمية ذات عقيدة أو نظرية سياسية و فكرية محددة، قد انتهى وعفا عليه الزمن. فما عادت الشعوب ترضى لنفسها أن تقاد كقطيع من نعاج بعصا هذا الراعي أو ذاك، واضعة نصب عينيها التجارب التاريخية البشرية الألف التي استحالت فيها تلك القيادات أو الزعامات وانقلبت من قيادات شعبية وطنية، إلى زعامات دكتاتورية مستبدة ، حكمت شعوبها بالحديد والنار … فصار البديل الطبيعي والمنطقي لذلك المبدأ، هو مبدأ أن الشعب يصنع ثورته وقيادته بنفسه، وليس القائد الفرد هو من يصنع الشعب والثورة. لقد أثبتت الشعوب في أكثر من بقعة من بقاع الأرض و منها البقاع العربية، بأنها قادرة على إيجاد القيادة التي تتواءم وروح العصر، القيادة الجماعية الديمقراطية، بدلاً من القيادة الفردية الأوتوقراطية.
لقد بات مفهوم ديمقراطية الحكم السياسي و ليبرالية الحرية في التعبير، بحكم انتشار العلم والتعليم الأكاديمي لدى الغالبية، واضحا، معروف الأصول والآليات، في فكر ووعي الجماهير، بوجه عام، ولم يعد أمر معرفته أو إدراكه مقصوراً على نخبة معينة أو فئة محددة من المجتمع، وبالتالي فإن تشكيل الحكومات، وهيكلة الأنظمة، وإيجاد دولة المؤسسات، وصنع الدساتير ما عادت أحجية أو مسألة لا يفقهها إلا القيادات أو النخب. بل أصبحت علماً أكاديمياً في متناول الكثير من أبناء العامة المتخصصين والأكثر من ذلك أن كل الحكومات العربية المعاصرة، لا يكمن العيب في مؤسسات الدول القائمة عليها، ولا في الأنظمة والدساتير لتي تعلن تبنيها لها ؛ وإنما يكمن العيب في سدنة تلك الحكومات والقابضين على مصائرها، المتشبثين بعروشها، الذين، من أجل الحفاظ على مصالحهم و ديمومة سيطرتهم على كراسي الحكم فيها، لا يأنفون و لا يتورعون، ليس من وضع تلك الدساتير والأنظمة على الرف فحسب، بل والسطو على روحها، وتحريف نصوصها، لتتواءم مع أنانيتهم وشهوتهم للسلطة والصولجان، فيعملون على تفصيل كل شيء فيها على مقاساتهم الخاصة بهم، مستبعدين أي طرف آخر، وملغين دور تنظيمات المجتمع المدني بشتى أشكالها عن المشاركة بشيء في إدارة البلاد، لا بالقول ولا بالعمل. الأمر الذي أفرز ذلك الغضب المضطرم على هذا التغييب و التهميش السافر للشعب وقواه الواعية التي صارت تعيش في أوطانها كالغرباء بلا أدنى تقدير أو قيمة ومكانة.
• ومن الدروس التي توحي بها هذه الانتفاضات العربية هو أن الجيش هو من بيده في نهاية الأمر حسم الموقف مع أو ضد أي طرف من أطراف الصراع، لأن العين لا تقاوم المخرز، ولا الغزال المسالم يستطيع الصمود في وجه النمر المفترس، فإن كان الجيش جيشاً للشعب والدولة ( ككيان سياسي خالد لأي بلد)، مهمته حماية الوطن وأبنائه من أعدائه الطامعين من الخارج أو الداخل، وذا قيادة وطنية، تضع الوطن ومواطنيه فوق كل اعتبار؛ كان انحيازه لانتفاضات شعبه المعبرة عن رغبتها في الحرية وفي كسر أغلال الأسر والعبودية، وفي استرداد حقوقها المشروعة المهضومة. وبالتالي انتصار الانتفاضة، واختصار الدرب والتضحيات والمعاناة على الشعوب الثائرة، وإن كان الجيش جيشاً للحاكم و أراجيزه في الحكومة، مهمته حراسة العرش، وحماية سدنته، والمحافظة على الصولجان في يد المتشبث ببراثنه بكرسي الحكم، كان انصياع الجيش، كالرجل الآلي، لإرادة الحاكم وأذنابه في الحكومة ، ويتحول إلى أداة قمعية همجية رهيبة ضد الثورة والثوار، قد تختل بها القوى، بسحق الآلاف من العزل تحت دباباته ومجنزراته وطائراته، ويضع الثوار الطامحين للتغيير والحرية في موقف لا يحسدون عليه، موقف أبي فراس الحمداني الذي عبر عنه ذات يوم بقوله :
وقال أصيحابي الفرار أو الردى
فقلت هما أمران أحلاهما مروهذا أمر يضع الجيوش العربية كلها أمام مسؤولياتها التاريخية، ويجعلها في مفترق الدروب ، وعليها في مثل هذه الأوضاع أن تختار هويتها ورسالتها في الحياة ، فهي إما أن تكون جيوشاً وطنية تذود عن الوطن ومواطنيه من كل غاشم ولئيم، أو تكون مجرد دمى في يد الطغاة المرفوضين من شعوبهم و مواطنيهم، فتخون أمانتها ورسالتها الحقيقية التي وجدت من أجلها أصلاً . “درعاً للوطن و الشعب الخالد ، لا درعاً للحاكم الفاسد”
• و هذا الوضع الأخير الذي أحاق ببعض الشعوب العربية المنتفضة الرافضة، بالطرق السلمية، لحكامها الظلمة المستبدين، ووجدت نفسها فجأة وبلا مقدمات أو سابق إنذار، أمام جيش الحاكم الجرار وآلته الحربية الجهنمية، جعلها في مأزق عصيب، وضعها أمام خيارين صعبين ما عنهما مناص أو محيص، هما: الاستسلام والقضاء عليها قضاء مبرماً و تصفيتها جسدياً من قبل الحاكم الجاثم على صدرها منذ عقود أو الاستعانة بالشيطان، بكل ما تعلمه عن طمع و جشع هذا الشيطان المتمثل في الدول الاستعمارية الرافعة ، (كأحبولة )، لراية الدفاع عن حقوق الشعوب في الحرية والديمقراطية، أي بالموت حرقاً بجحيم الحاكم، أو بالموت غرقاً بيَمَِ الغريب القادم. ولأن الموت بالنار عاجل وسريع، لا تجدي فيه الإسعافات الأولية، بل يستحيل فيه الجسد إلى رماد تذروه الرياح … و الموت غرقاً بالبحر آجل و بطيء ، قد تُجدي في إنقاذه قبلة الحياة وبعض الإسعافات الأولية للإنعاش و لما كانت غريزة البقاء تأبى الاستسلام ، اختارت بعض تلك الشعوب المغلوب على أمرها، و قد تختار غيرها قريباً، السباحة في اليم المتلاطم الأمواج ، أملاً في وصولها ذات يوم إلى بر الأمان، فتعيش يوماً أو بعض يوم ثم من بعدها الأجيال تتنسم عبير الحرية.
و إن اختارت الشعوب طلب النجدة من الغريب الطامع، فما ذلك إلا إثم و جرم آخر اقترفه أولئك الحكام الذين حتموا على شعوبهم تجرع الذل و المهانة مرتين … مرة بأيديهم الملطخة بالدماء و الوحل … و مرة بأيدي المستعمرين، الذين أعطوه الذريعة والفرصة الذهبية للتدخل بصفة المنقذ والمخلِّص. فصار حال تلك الشعوب كالحال التي عبر عنها المتنبي من قديم الزمن :
ومن نكد الدنيا على الحر أن يرى
عدواً له ما من صداقته بدوعموماً ، مهما كان عناد أولئك الحكام وتكالبهم على السلطة والسلطان، ومهما كان حجم التضحيات التي تقدمها الشعوب على مضارج الحرية، لكنها ستنتصر في نهاية المطاف، لأنه بعد كل ليل مدلهم صباح ، ولأن إرادة الشعوب من إرادة الله ، و إرادة الله لا تُهزم
-
الكاتبالمشاركات
- المنتدى ‘إرشيف’ مغلق ولا يمكن إضافة موضوعات أو ردود جديدة.